وظّف جيش الاحتلال، خلال 80 يوماً من هجومه على مخيم جباليا ومحافظة شمال القطاع، كل ما راكمه من خبرات وأساليب وأدوات قتل خلال 15 شهراً من عمر الحرب، ومن ذلك الاعتماد المفرط على آلات متعددة في تنفيذ مهمّات التمهيد الناري والاقتحام والتمشيط، من طائرات «كواد كابتر» تحمل بنادق، وأخرى تلقي قنابل يدوية، وثالثة تصوّر بالكاميرات الحرارية. وجيش الآلات هذا، يتحرّك على علو منخفض من الأرض، ويسير بين الشوارع الضيقة ويدخل البيوت. أما على الأرض، فلم تطأ قدم جندي شبراً، قبل أن تحرقه ثلاث وسائط من النار: الأولى، هي الروبوتات المفخّخة التي يحمل الواحد منها 4000 كيلوغرام من المواد المتفجرة؛ والثانية، هي القصف المدفعي الكثيف؛ والثالثة هي الاستهداف من الجو بالطيران الحربي والمُسيّر لكل شيء يتحرّك.
بهذا الأسلوب وتلك الأدوات، حوّل جيش الاحتلال مدن شمال القطاع الثلاث: جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، وما يحيط بها من أحياء وضواح، إلى أكوام من الركام، وذلك بعدما أتمّ تهجير نحو 130 ألفاً من المناطق التي تتواصل فيها العملية العسكرية الكبرى، لليوم الـ80 على التوالي. ويعني ما تقدّم، أن العدو يتعامل مع كل مَن آثر البقاء على أنه هدف عسكري، وهو الأمر الذي يطلِق يديه التي لم تكن مقيّدة أصلاً، في إطلاق النار وارتكاب المجازر الجماعية.
وعلى رغم ذلك، تواصل جباليا التي تسمَّت هذه العملية باسمها، نهجها التاريخي في التحدّي، إذ لم يرفع أيّ من المقاتلين المحاصَرين بالموت والجوع، الراية البيضاء، بل إن عملياتهم الميدانية المستمرّة تقدّم تصديقاً للشعارات التي مهرت بها كل جدران الأزقة والحواري: «لا تمت قبل أن تكون نِدّاً». هكذا، لا يستسلم المقاومون، بل يقولون بملء الفم في آخر إصدارٍ مرئي للكمين الكبير في حي الفالوجا غرب المخيم: «نحن لا نستسلم… ننتصر أو نموت».
وسجّل اليومان الماضيان نموذجاً للزخم الميداني الذي يعكس إرادة القتال التي لم تُكسر، حيث أعلنت «كتائب القسام» تنفيذ عدد من المهمات القتالية. ووفقاً للإعلام العسكري التابع لها، أقدم المقاومون، أولَ أمس، على تدمير ناقلة جنود بعبوة «شواظ» وسط مخيم جباليا، كما اشتبكوا مع قوة راجلة غرب المخيم وأجهزوا على ثلاثة جنود من مسافة صفر. كذلك، قالت «القسام» إن مقاوميها تمكّنوا من تفجير منزل مفخّخ بقوّة صهيونية قوامها 11 جندياً وإيقاعهم بين قتيل وجريح.
لم يرفع أيّ من المقاتلين المحاصَرين بالموت والجوع، في جباليا، الراية البيضاء
أما أمس، فأبلغت «القسام» عن قنص جندي في منطقة التوام، واستهداف قوة من الجنود تحصّنت داخل أحد المنازل بقذيفة «تي بي جي» قرب دوار أبو شرخ غرب المخيم، فضلاً عن الإجهاز على خمسة جنود من مسافة صفر قرب مسجد «الخلفاء الراشدين» وسط مخيم جباليا. أيضاً، تمكّن مقاتلو «الكتائب» من تفجير ناقلة جنود بعبوة «شواظ» قرب مسجد الشهيد «عماد عقل» شرق المخيم، في حين أعلنت عن عملية أخيرة، تظهر مدى الشجاعة والاستعداد الملحمي للقتال؛ إذ قال الإعلام العسكري إن أحد المقاومين تمكّن من قتل جندي صهيوني كان يقف إلى جانب دبابة، واستولى على سلاحه قبل أن يلقي قنبلتين يدويتين داخل الدبابة غرب مدينة بيت لاهيا شمال القطاع.
من جهتها، أبلغت «سرايا القدس» عن تنفيذ عملية استحكام مدفعي طاولت الجنود المتوغّلين وسط مخيم جباليا، ونشرت مشاهد مصوّرة تُظهر عمليات الرصد والإطلاق، فيما أعلنت أيضاً تمكّن مقاوميها من إطلاق رشقة صاروخية من قلب مناطق توغل الاحتلال في مخيم جباليا تجاه مستوطنات غلاف غزة.
وعلى رغم أن ذلك الأداء البطولي لم يشكّل حتى اليوم عامل ضغط لإنهاء العملية المستمرة للشهر الثالث على التوالي، لكنه بكلّ تأكيد يعطّل خططاً سياسية واستيطانية كان يمكن أن تبتلع مزيداً من المناطق، بل ويدفع جيش العدو إلى صناعة تقدير موقف أكثر ارتباكاً عن الوضع الأمني في القطاع في مرحلة ما بعد الحرب، خصوصاً أن واحداً من الأهداف العسكرية، كان تحويل مناطق غزة كافة، وفي القلب منها مخيم جباليا، في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، إلى مناطق آمنة للتوغّل الذي يهدف إلى تنفيذ عمليات خاطفة لاعتقال أو اغتيال مطلوبين. على أن ما يقوله المقاومون في جباليا هو أن الاستسلام الذي لم ينتزعه العدو طوال 15 شهراً من الحرب، لن يقدّمه المخيم حتى لو كان الثمن هو الأرواح.